الأقصى في عهد الأنبياء عليهم السلام

by admin
6710 views

د. شريف أمين أبو شمالة
رئيس مؤسسة القدس ماليزيا

 

الأنبياء يعمرون الأقصى..

اتضح معنا في المقال السابق أن تأسيس الأقصى كان في عهد آدم عليه السلام، ومن المؤكد أن الأنبياء الذين أعقبوه عليه السلام قد عظموا شأن المسجد الأقصى، وصلوا فيه، وخصوصا أولئك الأنبياء الذين قدر لهم أن يعيشوا أو يزوروا منطقة بيت المقدس جريا على سنة أبيهم آدم عليه السلام الذي “بنى بيت المقدس ونسك فيه”[1].

واختار الله تعالى بيت المقدس لتكون الموطن الجديد لإبراهيم عليه السلام وأرض هجرته، بعدما لاقى العنت والظلم من قومه في العراق، قال تعالى: “ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين”، وإذ تشير المصادر إلى أن إبراهيم تردد إلى مكة من بيت المقدس، وقد جدد بناء الكعبة في واحدة من زياراته، إلا أن ما بين أيدينا من مصادر لا تبين إن كان إبراهيم عليه السلام قد جدد بناء المسجد الأقصى كما فعل بالبيت الحرام أم لا، ويجدر التنويه أن ابن يتيمة يذكر أن “المسجد الأقصى كان من عهد إبراهيم عليه السلام”، ويذكر في موضع آخر أن الأقصى كان مصلى الأنبياء منذ عهده عليه السلام، فيذكر: “المسجد الأقصى صلت فيه الأنبياء من عهد الخليل”[2].

وقد رافق إبراهيمَ عليه السلام في هجرته إلى منطقة بيت المقدس والإقامة فيها نبي الله لوط عليه السلام، وفيها رزق إبراهيم عليه السلام بولديه إسماعيل وإسحاق عليهما السلام، كما رزق إسحق بولده يعقوب عليه السلام، وعاش يعقوب في بيت المقدس وفيها رزق بيوسف عليه السلام إلى جانب أولاده الآخرين الذين عرفت ذريتهم لاحقا ببني إسرائيل، وبعد قصة يوسف المشهورة مع إخوته وتعرفه عليهم في مصر سني القحط، انتقل يعقوب عليه السلام في آخر حياته إلى مصر، حتى توفاه الله هناك، لكن جثمانه نقل إلى منطقة بيت المقدس ليدفن عند أبيه إسحق وجده إبراهيم -عليهم السلام-حسب وصيته.

ومن ذرية يعقوب عليه السلام (بنو إسرائيل) بعث الله نبيه موسى عليه السلام في مصر، وكانت قصته المشهورة مع فرعون، حتى أمر بالخروج من مصر مع قومه والدخول إلى “الأرض المقدسة”، لكنهم خافوا وأحجموا، فعاقبهم الله تعالى بالتيه في صحراء سيناء أربعين عاما، وكان نبي الله هارون أيضا مع أخيه موسى قاصدا الهجرة إلى الرض المقدسة، لكنه توفي في التيه قبل موسى، أما موسى عليه السلام، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم  أنه لما جاءه الموت ” فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر”، قال أبو هريرة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر”[3]  وهذا يدل على مدى حرصه عليه السلام أن يقترب من أرض الأقصى، نبع البركة والقداسة.

بعد وفاة موسى عليه السلام، وانقضاء أربعين سنة من التيه، مات فيها معظم أو كل الذين رفضوا دخول الأرض المقدسة مع موسى، قاد يوشع بن نون الجيل الجديد ودخل بهم الأرض المقدسة، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس لم تحبس إلا ليوشع ليالي سار ‏إلى بيت المقدس»[4] ، ويوشع عليه السلام من الأنبياء غير المذكورين في القرآن الكريم، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بنبوته، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «غزا نبي من الأنبياء فقال للشمس ‏أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا»[5]. وهكذا عادت بيت المقدس في حوزة الموحدين ولابد أن الأنبياء والمؤمنين قد عمروا الأقصى صلاة وذكرا وتوحيدا لله عز وجل. 

عهد سليمان عليه السلام

بعد يوشع بن نون، يحدثنا القرآن الكريم عن نبيين من بني إسرائيل حكموا بيت المقدس: وهما داود عليه السلام، ومن بعده ابنه سليمان عليه السلام، ويبدو أن المسجد الأقصى آنذاك كان بحاجة إلى بناء وتعمير، فجدد بناءه سليمان، يستدل على ذلك من الحديث الذي يرويه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: “لما فرغَ سليمانُ بن داودَ عليهما السلام من بناءِ بيتِ المقدسِ، سأل الله عزَّ وجلَّ ثلاثاً: أَن يعطيهُ حكماً يصادف حكمه، ومُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدهِ، وأَنه لا يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلا الصلاةَ فيه؛ إلا خرجَ من ذنوبهِ كيومِ ولدتْهُ أمُّه”. فقال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَما ثِنتَينِ فقد أُعطيَهما، وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة”.[6]

وعلى الأكيد أن هذا بناء تجديد لا تأسيس، مثله مثل تجديد إبراهيم عليه السلام للمسجد الحرام، وقد وضح ذلك القرطبي في شرحه حديث أبي ذر السابق ذكره: “أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلاً؟ … “. بأنه قد ينشأ إشكال أن مسجد مكة بناه إبراهيم بنص القرآن، والمسجد الأقصى بناه سليمان – عليه السلام – كما في الحديث، وبين إبراهيم وسليمان مدة طويلة، تزيد عن ألف سنة، “ويرتفع الإشكال بأن يقال: الآية والحديث لا يدلان على أن بناء إبراهيم وسليمان لما بنيا ابتداء وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه، وقد روي أن أول من بنى البيت آدم – عليه السلام –  فعلى هذا فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس بعده بأربعين عاما”[7].  

ولا تذكر المصادر الإسلامية كثير معلومات عن المسجد الأقصى الذي جدد بناءه سليمان عليه السلام، وإن ذكرت فإنها تستند في ذلك إلى إسرائيليات وأخبار توراتية، يصعب الجزم بصحتها، لكننا نعتقد أن البناء كان يتناسب مع طبيعة القدرات والإمكانات التي وهبها الله تعالى لنبيه سليمان عليه السلام.  قال تعالى: “وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ۖ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ۖ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ” [سبأ: 12- 13]

عهد زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام.

من المؤكد أن عدة أنبياء قد أعقبت سليمان في بيت المقدس، لكن القرآن الكريم يحدثنا عن ثلاثة منهم جاءوا في حقبة زمنية واحدة، وثلاثتهم قد ارتبط ببيت المقدس والمسجد الأقصى، وهم: زكريا، وابنه يحيى، وعيسى بن مريم عليهم السلام، وكان المسجد الأقصى محوريا في حياتهم ودعوتهم إلى الله ومحاولاتهم المستمرة هداية وإصلاح بني إسرائيل، وكان الأقصى مكان اجتماعهم ومنبر دعوتهم.

فبعد أن نذرت زوجة عمران (أم مريم) مولودها القادم للخدمة في المسجد الأقصى، حسب ما اعتاد الصالحون من بني إسرائيل على فعله آنذاك، وحين وضعت حملها، مريم بنت عمران، تكفلها زكريا عليه السلام وأسكنها مكانا شريفا من المسجد الأقصى لتقوم بالعبادة والخدمة، ثم كان ما هو مشهور من أمر حملها المعجزة بعيسى عليه السلام، فكان آخر الأنبياء الذين ولدوا وبعثوا في بيت المقدس، وآخر الأنبياء قبل رسول الله  محمد صلى الله عليه وسلم[8].  

رزق نبي الله زكريا عليه السلام بولده يحيى الذي، الذي عاصره عيسى عليه السلام، وقد اجتهدوا في دعوة بني إسرائيل وما يقتضيه مقام النبوة، وفي الحديث الصحيح إشارة إلى قيامهما بذلك في المسجد الأقصى، فعن الحارث الأشعري، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ “أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، يَعْمَلُ بِهِنَّ، وَيَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، قَالَ: فَكَانَ يُبْطِئُ بِهِنَّ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِنَّكَ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ تَعْمَلُ بِهِنَّ، وَتَأْمُرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْمَلُونَ بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ بِهِنَّ، وَإِمَّا أَنْ أَقُومَ بِأَمْرِهِمْ بِهِنَّ، فَقَالَ يَحْيَى: إِنَّكَ إِنْ تَسْبِقَنِي بِهِنَّ أَخَافُ أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي، فَجَمَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ حَتَّى امْتَلأَ الْمَسْجِدُ، حَتَّى جَلَسَ النَّاسُ عَلَى الشُّرُفَاتِ، فَوَعَظَ النَّاسَ …… “[9]. والحديث يدل على وجود المسجد الأقصى سليماً عامرًا واسعًا زمن عيسى عليه السلام، والبناء فيه ذو شرفات مرتفعة.

بقي أن نذكر أنه بعد عيسى عليه السلام توقف إرسال الأنبياء، حتى بعث الله تعالى الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ليكمل مسيرة أجداده من الأنبياء مع الأقصى.  

وبذلك نرى ارتباط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام عمارة وتاريخا وفضلا، فعظمت مكانته، وحفلت بالأنبياء مسيرته؛ فالذي أسسه نبي، وجدد بناءه نبي وربما أنبياء، وصلت فيه الأنبياء، ولتحريره جاهدوا، وفيه بلغوا دعوته، وإليه هاجروا، وحوله عاشوا وماتوا.

[1] انظر: التيجان في ملوك بني حمير: ص22.

[2] ابن تيمية: الفتاوى، 27/257 .

[3] صحيح البخاري.

[4] رواه أحمد .

[5] صحيح مسلم

[6]  رواه أحمد والنسائي وابن ماجه

[7] القرطبي: المفهم لما أشكل من كتاب تلخيص مسلم، ج2، ص114-115

[8]  ابن كثير: قصص الأنبياء.

[9]  رواه الترمذي وانظر: صحيح ابن خزيمة

Related Articles