مجد الهدمي
قرّاء الإذاعة
مع دخول المذياع إلى بلادنا، وتحوّله لأداةٍ رائجةٍ وشعبيّةٍ، سعت دُورُ الإذاعة إلى استقدام قرّاء القرآن الكريم للتلاوة في أوقات مخصصة عبر الأثير، وبرز ذلك بصورة واضحة في فترة الاحتلال البريطاني والحكم الأردني، وبقيت هذه العادة حتى وقتنا الحالي. شهدت الفترة ما بين الأربعينيّات والتسعينيّات زيارات متكررة لمشاهير القرّاء من العالم الإسلامي، وخاصّة من مصر التي تميّز قُرّاؤها بطريقة التحقيق في التلاوة حسب قواعد علم التجويد. وتعتمد هذه القراءة على النفس الطويل والتنغيم بين المقامات الصوتية، فتكون القراءة قراءةً تصويريةً للنص القرآني بصوت القارئ، وكانت تلقى هذه الطّريقة رواجاً واندهاشاً واستئناساً من أهل القدس أكثر من غيرها.
في العام 1942م زار الشيخ أبو العينين شعيشع المسجد الأقصى، وذلك بدعوة من إذاعة الشرق الأدنى البريطانية التي كان مقرّها بيافا، وقرأ في شهر رمضان عدة تلاوات، وكان أول قارئٍ مصريٍّ يقرأ في المسجد الأقصى في عصرنا الحديث. وفي عام 1957م زار الشيخ محمد صديق المنشاوي المسجد الأقصى وأبهر المصلّين بصوته العذب الذي وصلهم مباشراً بعد أن كانوا يسمعونه عبر أثير الإذاعات، ومن أجمل تلاواته النادرة التي قرأها في الأقصى مقاطع مختلفة من سورة الإسراء، مريم، الفجر، والبلد. وبحسب ما توصلنا إليه في هذا البحث المختصر، فقد زار المنشاوي المسجد الأقصى أربع مرات، في العام 1957، 1961، 1962، 1964.
كانت الإذاعات تلحق الشيخ محمد صديق المنشاوي لتسجّل له لندرة صوته وسكينته التي يضفيها على المستمعين. وتُسجّل له عدة مواقف مشهودة؛ منها عدم انضمامه لوفد القرّاء المصريين الذين قدموا للقدس عام 1968م بعد احتلالها. توفّي المنشاوي عام 1969 (يُعرف عن المنشاوي كذلك بعده عن التقرّب والتودد للحكام والمسؤولين، وتعففه عن الظهور والتقاط الصور). وزَارَ الأقصى الشيخُ عبد الباسط عبد الصمد صاحب الحنجرة الذهبية في العام 1964م، وتلا فيه عدة تلاوات مشهورة من سور الإسراء، الأنبياء، الأحزاب، النمل، وقصار السور.
كما قرأ في الأقصى من المشاهير شيخ قراء طرابلس محمد صلاح الدين كبّارة عام 1947م، وكانت له تلاوات راتبة في المسجد الأقصى خلال إقامته في القدس لمدة عام. كما قام بتسجيل مقاطع تلاوات في إذاعة القدس فترة إقامته قبل احتلال فلسطين، وزار القدس مرة ثانية عام 1964م للقراءة في شهر رمضان المبارك. وزار الأقصى كذلك شيخ عموم المقارئ المصرية محمود خليل الحصري في العام 1968م، وقرأ فيه عدة تلاوات متنوعة.
وقرأ في المسجد الأقصى الشيخ مصطفى إسماعيل ذائع الصيت خلال عدة زيارات متفاوتة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كانت آخرها حين اصطحبه الرئيس المصري محمد أنور السادات عام 1977 خلال زيارته للقدس قُبيل توقيعه اتفاقية “كامب ديفيد”. كما قرأ الشيخ في الأقصى في صلاة العيد قبل ساعات من خطاب السادات في الكنيست الصهيوني.
على الرغم من الرفض الشّعبي في القدس لزيارة السادات، وعلى الرغم من أن أهل القدس استقبلوا السادات بالمشادّات، بالإضافة لتنديدهم بإغلاق المسجد الأقصى حينها وعدم السماح للناس بالدخول لصلاة العيد بسبب زيارة السادات، إلا أن الموقف من القرّاء كان منفصلاً ومتجهاً نحو الإعجاب بالأداء وحفاوة الاستقبال واجتماع السمّيعة حولهم. لا تقتصر هذه النظرة فقط على من رافقوا السادات، بل تشمل كذلك الزيارات المتعددة لعدد من القراء الذين وفدوا للقدس بعد اتفاقية السلام المصرية- الصهيونية (كامب ديفيد) عام 1978.
كما كانت تتخلل زيارة القرّاء من خارج فلسطين دعوات للمشاركة في مناسبات وطنية واجتماعية تلقى حفاوة الاستقبال، نذكر منها دعوة جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بالقدس للشيخ مصطفى إسماعيل لحضور ندوة اجتماعية طبية شهرية، تعقدها الجمعية التي كان يرأسها آنذاك الدكتور سليم معتوق. كما قرأ في المسجد الأقصى الشيوخ محمود علي البنّا، ومحمود صديق المنشاوي، ومحمود الطبلاوي، ومحمد الطوخي، ومحمد العبد، وغيرهم من قراء العالم الإسلامي.
أما أبرز قرّاء الإذاعة المحليّين، أي من فلسطين، فمنهم القارئ الشيخ عبد الله يوسف، والذي كان صوته يصدح بالقرآن في المسجد الأقصى المبارك في التلاوات الرسمية وتلاوات الجمعة وصلاة العيد بصفته قارئ المسجد الأقصى المبارك، كان يمتاز بصوته العذب الشجيّ ولباسه الأنيق بالبدلة الرسمية ورأسه المغطّى دائماً بالكوفية. ظلّ صوت الشيخ عبد الله يوسف في ذاكرة المقدسيين، تذكره الأجيال التي سمعته عبر التلفزيون الأردني والذي ظلّ يبثّ تلاواته بعد وفاته (1988-1989). وله عدة تسجيلات متنوعة من القرآن الكريم والابتهالات.
كما كان يفد إلى المسجد الأقصى قارئ المسجد الإبراهيمي الشيخ محمد رشاد الشريف الحافظ المتقن صاحب الطريقة البديعة في تلاوة القرآن، عُرِف عنه التزامه بلبس الطربوش الأحمر العثماني، وتميّز بصوته الملائكيّ الذي يشنّف آذان المستمعين بتقليده للشيخ محمد رفعت أحد قراء الرعيل الأول في مصر، وكان يقرأ كذلك في إذاعة القدس في الأربعينيات. عيّن الشريف عام 1966م قارئاً للمسجد الأقصى، وهو القارئ الوحيد من قرّاء الأقصى الذي سجّل القرآن كاملاً، وقد زار المسجد الأقصى قبل ثلاثة أعوام، في آخر زيارة له قبل وفاته في عمان العام الماضي 2016.
تسجيل فيديو يتضمن آخر زيارة للشيخ الشريف للأقصى ويظهر في التسجيل طريقة الشيخ المميزة في التلاوة:
ومن القرّاء الذين نالوا شرف القراءة في المسجد الأقصى الشيوخ داود عطا الله وياسر قليبو ومحمد الغزّاوي وعطا شاهر رشيد وناجي القزّاز.
بعد تولي السلطة الفلسطينية إدارة الضفة الغربية وغزة، كانت تُرسل دعوات رسمية منها إلى وزارة الأوقاف المصرية لابتعاث القرّاء المصريين للقراءة في المسجد الأقصى في شهر رمضان، ويتم خلالها توزيع القرّاء على المدن الفلسطينية. بقيت هذه العادة حتى عام 2002م.
دار القرآن الكريم في المسجد الأقصى
أُسس معهد العلم الشرعي في المسجد الأقصى عام 1958م في الغرف التي تقع في الرواق الشمالي بين باب الأسباط وباب حطة، بجانب ثانوية الأقصى الشرعية. وكان من ضمن المقررات التي يتعلّمها طلبة العلم: أسُس العقيدة والفِقه، الحديث، التفسير، علوم القرآن، اللغة، علم التجويد وإتقان تلاوة القرآن الكريم. بقي تعليم القرآن في المسجد الأقصى مقرراً جزئياً لطلبة العلم الشرعي، حتى تأسست دار القرآن الكريم عام 1974م، ومقرّها اليوم في قبّة موسى مقابل باب السلسلة؛ أحد أبواب المسجد الأقصى من الجهة الغربية.
وكان أول من درّس فيها الشيخ شحادة حمدان أستاذ التجويد في المدرسة الشرعية، أزهريّ التعليم، حافظُ متقنٌ ومجازٌ بالقراءات العشر ويحمل شهادة العالِمية من الأزهر الشريف. كان هذا الشيخ كفيفاً يجتمع حوله الطلاب والحفّاظ لتعلّم أحكام التجويد والقرآن وأخذ الإجازات في القراءة. وكان الشيخ يتفرّغ في الفترة الصباحية حتى صلاة الظهر لإقراء القرآن وتعليم التجويد، ثم يكمل بقية اليوم حتى العشاء الشيخ خضر غنيم، وهو كفيف لم يُعرف بين أقرانه ولا تلامذته أحدٌ بمستواه في إتقان الحفظ.
وممن أكملوا حلقة تعليم القرآن وتحفيظه بعد وفاة الشيخ حمدان، الشيخ محمد عايش أحد تلامذته ممن حفظوا القرآن عنده، وعلّموا أحكام التجويد في الأقصى للرجال والنساء في دار القرآن الكريم، والشّيخ محمد ذيب حمّاد الذي كان يشرف على تعليم القرآن في قبة الصخرة المشرّفة، لم يمنعه من ذلك كبر سنه وفقد بصره. وقد بقي الشيخ حمّاد يرابط في المسجد الأقصى يومياً، حتى بلغ من العمر 100 عام، إذ كان من عادته التوجه من الصباح الباكر للمسجد الأقصى، وقضاء جلّ وقته فيه ما بين تحفيظ للقرآن الكريم وتعليم وتدريس الفقه الشرعي حتى وفاته.
وهناك حلقة الإقراء والمقامات الصوتية المميّزة التي يشرف عليها الشيخ محمد جمال الصفدي، جامع التراث الإقرائي المصري والشامي في المسجد الأقصى، يجلس بين المغرب والعشاء على مدار الأسبوع منذ ثلاثين عاماً، يعلّم الناس فنون التلاوة واختيار طبقات القراءة وأسلوب القراءة التصويرية التي تفسّر معاني القرآن.
كانت القدس ولا تزال حاضرة من حواضر المسلمين التي شدّ إليها آلاف طلبة العلم رحالهم للدراسة والإقامة، ومَن يستحضر تاريخ المدينة في العلم يلحظ أن انقطاعه وضعفه كانا طارئين يزولان، وكم هو ضروريّ الحفاظ على هذا التاريخ ومنه تاريخ القرآن وتلاوته ونقله وتعليمه. كما أن ممارسة القراءة واستمرارها في ثالث أهم مسجدٍ عند المسلمين فعل ضروري، يُحمل على الوجوب في باب الحفاظ على الهوية؛ هوية المسجد والمدينة والمجتمع، خاصةً في ظلّ استهداف المسجد واستهداف رواده.
المصادر:
طبقات القراء، شمس الدين الذهبي – تحقيق أحمد خان، مركز فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 1997.
الأوقاف الإسلامية في فلسطين في العصر المملوكي، د. محمد عثمان الخطيب، رسالة دكتوراه بكلية الآداب جامعة اليرموك، 2007م
الحركة الفكرية في ظل المسجد الأقصى في العصرين الأيوبي والمملوكي، عبد الجليل عبد المهدي، مكتبة الأقصى، عمان، 1980.
الحياة الفكرية والثقافية في القدس في العصر المملوكي، محمد زارع الأسطل، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلامية في غزة.
أهل العلم بين مصر وفلسطين، أحمد سامح الخالدي، شركة نوابغ الفكر، 2008.
معاهد العلم في بيت المقدس، كامل جميل العسلي، جمعية عمال المطابع التعاونية، 1981.
جذور مدرسة الإقراء الفلسطينية – دراسة علمية- د. حاتم جلال التميمي.
تاريخ موسم الحج في بيت المقدس، بشير عبد الغني بركات، دار البشائر الإسلامية، 2014.
أرشيف مخطوطات المتحف الإسلامي في المسجد الأقصى.
أرشيف الصحف الفلسطينية فترة الاحتلال البريطاني- موقع جرايد.
مقابلات شفوية:
عدنان العويوي، مؤذن وسادن وإطفائي عمل في المسجد الأقصى لأكثر من 40 عاماً.
فتحي منصور، قاضي محكمة الاستئناف الشرعية.
محمد الصفدي، أستاذ التراث الإقرائي في المسجد الأقصى.
يوسف أبو سنينة، إمام في المسجد الأقصى.
حاتم جلال التميمي، أستاذ مشارك في كلية الشريعة- جامعة القدس وشيخ قراء فلسطين.
محمود قاسم، أحد مدرّسي القرآن في المسجد الأقصى المبارك.
فخري مزعرو، مسؤول استقبال القرّاء ووفادتهم.
المصدر: جزء من مقال منشور على موقع باب الواد