د. شريف أمين أبو شمالة
رئيس مؤسسة القدس ماليزيا
كانت رحلة الإسراء والمعراج من العلامات الفارقة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي مسيرة الإسلام، وهي من المعجزات التي أجراها الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم، حدثت في السابع والعشرين من شهر رجب قبل الهجرة بعام واحد، حسب على بعض الأقوال، والمقصود بالإسراء انتقال النبي صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام بمكّة المكرّمة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، وقد تم الإسراء بصحبة الملك جبريل على دابة البراق التي قطعت المسافة بين المسجدين في زمن قياسي.
ويقصد بالمعراج ما وقع عقب الإسراء من عروج وارتقاء النبي صلى الله عليه وسلم بصحبة جبريل إلى السماوات، حتّى الوصول إلى سدرة المنتهى، وهو من القضايا الغيبيّة التي يجب على المسلم أن يؤمن بها لثبوتها في القرآن الكريم والسنّة المشرّفة.
وسبق رحلة الإسراء والمعراج أيام شديدة وحزينة على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث توفّي أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم والحامي له ولرسالته، وبعدها بفترةٍ قصيرة توفيت السيدة خديجة بنت خويلد زوجة الرسول وأقرب الناس اليه، وزاد أذى قريش له بعد وفاة عمّه الّذي كان يدافع عنه فلجأ إلى الطائف لاستنصار أهلها، ولكنّهم آذوه فزاد الحزن في قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلم، حتى إن هذا العام سمي “عام الحزن” فأيّده الله عزّ جل بمعجزة الإسراء والمعراج للتّخفيف عنه، وزيادة عزمه وقوّته لتحمّل ما تبقّى له من الدعوة.
وتتلخص الرحلة بينما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نائمآ في الحجر بالمسجد الحرام أتاه جبريل عليه السّلام، فأيقظه وخرج به إلى باب المسجد، ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصحبة جبريل عليه السّلام حتّى وصل إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، راكبا على دابة البراق التي وصفها النبي بقوله: “أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ. قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ”. وهناك -في الأقصى- قابل النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء وأمهم في الصلاة ، ثمّ أُتى جبريل رسول الله بوعائيين، في أحدهما خمر، وفي الآخر لبن. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إناء اللبن وشرب منه، وترك إناء الخمر. فقال له جبريل: هديتَ للفطرة، وهديت أمّتك يا محمّد، وحرّمت عليكم الخمر.
وبذلك نرى الأقصى حاضرا وشاهدا على واحدة من أهم الحوادث في تاريخ رسالة الإسلام ولا سيما فرض الصلاة واجتماع الأنبياء فيه كان بمثابة بيعة الأنبياء للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن الأقصى كان المعراج إلى السماء حيث تلقى النبي صلى الله عليه وسلم الأوامر بفرض الصلاة وقد كانت الرحلة حافلة بالمشاهدات والتفاصيل التي تناولتها كتب الحديث، ولم تستغرق هذه الرحلة الليلة حتى عاد النبي إلى فراشه في ذات الليلة، وفي الصباح حدث بها الناس فكان منهم المصدق ومنهم المكذب، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف لهم المسجد الأقصى ليثبت لهم صدق روايته بالرحلة إلى الأقصى.
قال الدكتور مصطفى السباعي إنّ في الإسراء والمعراج أسراراً كثيرة، منها ما يخصّ المسجد الأقصى، فقال: “فيها ربط قضيّة المسجد الأقصى وما حوله – فلسطين- بقضيّة العالم الإسلامي، إذ أصبحت مكّة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم مركز تجمّع العالم الإسلامي ووحدة أهدافه، وأنّ الدّفاع عن فلسطين دفاع عن الإسلام نفسه، يجب أن يقوم به كلّ مسلم في شتّى أنحاء الأرض، والتفريط في الدّفاع عنها وتحريرها، تفريط في جنب الإسلام، وجناية يعاقب الله عليها كلّ مؤمن بالله ورسوله”.
التأكيد على الربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى
وقد جاءت رحلة الإسراء لتؤكّد الرّبط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ومسألة الربط بين المسجدين مسألة قديمة، تعود إلى الأيّام الأولى التي وجد فيها آدم وبنوه على الأرض. ويوضح ذلك الحديث الشريف الذي يرويه أبو ذر الغِفاري – رضي الله عنه- وفيه: (قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قَالَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ) رواه البخاري
وهذا الربط القديم أكّده الله تعالى بقوله: )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( (سورة الإسراء آية 1).
والربط بين المسجدين في الإسلام لم يقتصر على رحلة الإسراء، بل حصل في أعظم عبادة هي عبادة الصلاة، حيث أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم عند هجرته أن تكون قبلته في الصلاة بيت المقدس، واستمر الحال على ذلك ستة عشر شهراً حتّى كان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، ونزل في ذلك قول الله تعالى: )قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ( )سورة البقرة آية 144).
وقد بيّن العلماء أنّ الربط بين المسجدين يشعرالمسلمين بمسؤوليتهم نحو المسجد الأقصى ونحو تحريره، ووضّح أنّ هذا الرّبط يشعر بأنّ التهديد للمسجد الأقصى تهديد للمسجد الحرام، وأنّ النّيل من المسجد الأقصى توطئة للنيل من المسجد الحرام، وذلك لأنّ المسجد الأقصى بوّابة الطّريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين ووقوعه في أيدي اليهود هو في حدّ ذاته تهديد للمسجد الحرام ولأرض الحجاز.
دلالة المعراج من بيت المقدس
عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات من أرض بيت المقدس وعودته إليه بعد رحلة السماء، يدل دلالة واضحة على أن المسجد الأقصى بوابة السماء إلى الأرض، ويشعر بأهمية هذا المسجد ورفيع مكانته، وأنّه أمانة في ذمة المسلمين وهم جميعاً مسؤولون عنه، وقد حدث له ما حدث وطمع في أرضه الغزاة؛ لأنه في موقع الثغر من ثغور المسلمين، يحمي الأمة، ويحمي دينها، ويحمي المسجد الحرام من غارات الصليبيين ومن شابههم.