أسيل جندي
“غرستُ الأقصى في قلبي فنما في شراييني، غدت روحي محلقة فوق رباه بحنيني، يا كل العالم فلتسمع بُرعم الفلسطيني، أنا لن أبيع ترابه أنا لن أخون ديني.. مسرى الرسول ومعراجه سيبقى حقي ويقيني سأذود عنه بعقيدتي وأحمل روحي بيميني.. قم يا أخي واحمل سلاحك وادفع الظلم المرير، واهتف باسم الله مكبرا زلزل بها الطاغي الأثيم، واقرأ الأنفال مهللا تفتح لك جنان النعيم، سندق القيد يا أقصى ونُعلي الصرح المتين وندخلها بإذن الله بعز عزيز وذل ذليل، وعْدُ الإله لمن أطاعه ووعدُ الله حق ويقين”.
عندما خطّت السيدة الفلسطينية منتهى أمارة هذه الكلمات ولم يتجاوز عمرها 14 عاما، لم تكن تعلم أن طريق رباطها في الأقصى لاحقا سيكون محفوفا بالمخاطر والتضحيات الكثيرة.
ولدت عام 1973 في مدينة أم الفحم بالداخل الفلسطيني المحتل، وترعرعت في كنف أسرة متدينة وعائلة ممتدة تفانت في إعلاء كلمة الحق ونصرة المسجد الأقصى، فلم يكن غريبا عليها أن تسلك طريق الرباط وهي ابنة شقيقة شيخ الأقصى رئيس الحركة الإسلامية في الداخل المحتل رائد صلاح.
أنهت دراستها الإعدادية وتزوجت لاحقا بالشيخ محمد أمارة بقرية زلفة المجاورة لمدينتها، وكثفت منذ ذلك الحين زياراتها للمسجد الأقصى في تسعينيات القرن الماضي.
لم يمنعها الانغماس بمسؤوليات الأمومة مع أبنائها الستة من التوجه للقدس يومين في الأسبوع للرباط في المسجد الأقصى وأداء الصلوات الخمس في رحابه.
ارتباط روحاني
تقول منتهى للجزيرة نت “كبرتُ مع الأقصى وراقبت عن كثب المخاطر المحدقة به، ومع ظهور منصات التواصل الاجتماعي أخذت على عاتقي توثيق الانتهاكات ونشرها على صفحتي في فيسبوك، ومع انطلاق خدمة البث المباشر بدأت باستخدامها لتعريف المتابعين بمعالم الأقصى ومصلياته وتقديم معلومات وافية عنه”.
هذا النشاط لم يرق لسلطات الاحتلال التي بدأت بملاحقتها منذ عام 2013. وتجاوز عدد الاعتقالات حتى الآن عشرة تخللها إبعاد عن المسجد الأقصى كل مرة، وكان آخرها قبل يومين أثناء أدائها الصلاة في محيط مصلى باب الرحمة.
تضيف منتهى “أنا منقبة لكنهم باتوا يعرفوني جيدا ويناديني الضباط باسمي.. أنا شاهدة على تصاعد عنف الشرطة بحق كل من يوجد في منطقة باب الرحمة، ومنذ تصاعد استهدافها أصبحت أحضر وأصلي بها دائما.. ذلك ما أغاظهم لأن المستوطنين يمرون من المكان ويدعون أن وجودي يضايقهم ويعيق عمل الشرطة”.
ورغم الاعتقال الأخير الذي نجم عنه إبعاد لسبعة أيام على أن تعود منتهى للتحقيق الأسبوع القادم لتتسلم قرارا جديدا بالإبعاد عن الأقصى يُرجّح أن تكون مدته ستة أشهر، إلا أنها تقول إن ذلك يزيدها قوة وثباتا لإكمال طريق الحق الذي اختارته منذ عقود.
وانتشر على منصات التواصل مقطع فيديو أثناء تجمع عناصر من شرطة الاحتلال حول منتهى أثناء أدائها للصلاة، ورغم محاولتهم سحلها قبل إنهاء الركعة الأخيرة، بقيت ثابتة على الأرض ترفع سبابة يدها اليمنى وتنهي التشهد والصلاة الإبراهيمية.
وفي لحظة إنهائها للصلاة، انفجرت غاضبة في وجه الشرطة غير آبهة بالاعتقال. وقالت لدى اقتيادها إلى مركز التحقيق “لن ننحني.. لن ننكسر.. الأقصى لنا..” إنهم سينهزمون وسيرحلون “وسنبقى إن شاء الله” ثم أردفت وقالت للشرطيتين اللتين تقتادانها “يلا زي العروس زفوني”.
ملاحقات مستمرة
لم تلاحق منتهى في السنوات الأخيرة داخل باحات الأقصى وعلى أبوابه لعرقلة دخولها فحسب، بل لاحق الاحتلال شركات السياحة التي كانت تقلها والنساء بالحافلات من الداخل المحتل إلى المسجد الشريف، حتى اضطررن للتوجه بمركباتهن الشخصية إلى القدس رغم بعد المسافة.
تقول منتهى “مهما ضيقوا علي لن أترك الأقصى لأن ارتباطي به وجداني.. لا يمكنني وصف علاقتي به، هو بالفعل كالدم الذي يسري في شراييني.. قبل عام سافرت وزوجي إلى تركيا وعندما أتى اليوم الذي أتوجه به إلى الأقصى وأنا هناك شعرت بغصة عميقة وتمنيت لو تحملني طائرة من هناك وتهبط بي في ساحاته”.
لم تخلُ التحقيقات المتتالية التي تعرضت لها منتهى من سؤالها عما إذا كانت تتلقى تعليمات من أحد في إشارة لخالها الشيخ رائد صلاح، لكنها واظبت كل مرة على ترديد الإجابة ذاتها بالقول إنها تعتبره قدوتها ورمز قوة لكل حر أبي وهو تاج على رأس الأمة لما يقوم به من دور، لكنها تفعل ما تفعله من أجل الأقصى وفقا لمعتقدها بضرورة تسخير طاقاتها لنصرة هذا المكان وإحيائه.
وعلى وقع هاتفها الذكي تصدح أنشودة “والله لن أنسى مسجدنا الأقصى.. وقبة الصخرة تبكي من الحسرة تقول يا رباه يا واهب الحياة بعونك اللهم اكتب لنا النصر”.
ودّعنا أمارة التي تلقب نفسها بالمقدسية وهي تردد أمنيتها باكية “اللهم استخدمني ولا تستبدلني في خدمة مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم”.
300 كيلو متر، تقطعها أسبوعيا، ذهابا وإيابا للمسجد الأقصى، للصلاة في باحاته المباركة.
الطريق إلى القدس أقصر مما نتصور، إذا كانت القلوب هي التي تحرك أصحابها إلى لقاء مع أولى القبلتين.
المصدر : الجزيرة